لفهم الأوبئة أو أي جائحة ، لا بد من دراسة معمقة لكل مراحل تطور البكتيرية أو الفيروس ، وتجنب النظر إلى السلالات المختلفة للبكتيرية أو الفيروس كظواهر منعزلة عن بعضها البعض ، كما يجب على أي دراسة أن تأخذ بعين الإعتبار وضع الأوبئة أو أي جائحة في سياقها البيئي والإجتماعي.
إن تفسير تاريخ نشأة الموت الأسود أو بما يسمى بالطاعون أصبح في الآونة الأخيرة لغزا للباحثين والأكثر غموضًا في تاريخ البشرية.
يعتبرالموت الأسود ، الذي فتك بالبشرية أول مرة من عام 1346م إلى 1353م ، أول وباء طويل الأمد استمر من القرن الرابع عشر إلى القرن التاسع عشر ، حيث ذهب ضحيته أكثر من 50 في المائة من سكان أوروبا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا ، و كذلك من سكان آسيا الوسطى.
فرضيات كثيرة حول المنشأ
على مر القرون الماضية أجريت بحوث ودراسات من قبل العديد من الباحثين والعاماء ، تم من خلالها اقتراح العديد من التفسيرات والآراء والنظريات حول منشأ هذا الوباء ، بعضها مذكور في مقال نُشر على موقع The Conversation بواسطة الباحث فيليب سلافين ، أستاذ التاريخ في جامعة ستيرلنغ في اسكتلندا.
من بين هذه الأراء أن الطاعون أو الموت الأسود نشأ في الشرق ، وخاصة في المنطقة التي تلتقي فيها آسيا الوسطى ومنغوليا والصين.
كما أن هناك نظرية أكاديمية طرحها العالم الفرنسي جوزيف دي جين القائلة بأن الطاعون نشأ في الصين عام 1758 ، بينما علماء الأوبئة يقولون أن منطقة آسيا الوسطى بأكملها هي مسقط رأس الطاعون أو الموت الأسود.
نظريات أخرى تقول أن مصدر الطاعون هو شمال العراق والقوقاز ومنطقة الفولجا في روسيا وجبال الأورال الغربية وغرب سيبيريا ومناطق أخرى مثل الهند. وأن هذا الوباء حسب تقديراتهم مرتبط بالنيازك التي ضربت الأرض في ذلك الوقت.
في دراسة نُشرت في عام 2013 ، حدد فريق من علماء الميكروبات الطفرة الرئيسية التي تحورت فيها السلالة المهيمنة للوباء وانقسمت إلى 4 سلالات جديدة ، من 1 إلى 4. أطلق الباحثون على الطفرة أو السلالة 1 المرتبطة بالموت الأسود باسم الانفجار العظيم.
ويعتقد الباحثون أن الوباء انتشر على نطاق واسع في القرن الثالث عشر بسبب توسع الإمبراطورية المغولية الصاعدة.
قبور غريبة
يعتبراكتشاف فيليب سلافين لسجلات تصف مقبرة "كارا جيجاش" ، التي اكتشفها عالم الآثار الروسي نيكولاي بانتوسوف في عامي 1885 و 1886 وتحليل العالم الروسي دانيال جونسون هو نقطة التحول في البحث عن منشأ الموت الأسود.
من بين 467 قبراً من 1248 إلى 1345 ، يعود 118 إلى 1338 ، وهو عدد كبير من الوفيات بشكل مثير للريبة. لا يوجد سجل مفصل للقبور التي تم ذكرها على شواهد القبور ، لكن يوجد نص في 10 منها يشرح سبب الوفاة. وإحدى هذه الشواهد تحمل الرسالة التالية: مات بسبب الطاعون. "
اكتشاف مهم غير مسبوق
قام العلماء بفحص الشفرة الجينية للحمض النووي المأخوذة من رفات ضحايا الموت الأسود بنفس التواريخ القبور ، أي ما بين 1338 و 1339 ؛ بحيث كشف التحليل الجيني عن وجود بكتيريا الطاعون في 3 عينات ، مما أكد أنها سبب الطاعون. لاحظ العلماء أن السلالة (في الأسرة الصفرية) يبدو أنها سبقت الطفرة الجينية التي تبعتها بعد فترة وجيزة سلالة الموت الأسود. وهكذا ، تشير الدراسة إلى أن الطاعون الأسود بدأ بعد فترة وجيزة (أو ربما أثناء) اندلاع المرض بين عامي 1338 و 1339.
تجدر الإشارة إلى أن الطاعون أو الموت الأسود يعيش في القوارض البرية ، ويعتقد عمومًا أن مصدر الطاعون هو الجرذان ، لكن القوارض الشائعة التي نشرت الطاعون في منطقة تيانشين هي حيوانات الغرير ، لذا فمن المحتمل أن تكون هي المصدر الأول لتفشي الطاعون بين عامي 1339 و 1339.
أهمية هذه الدراسة
تضع هذه الدراسة حدا لقرونً من الجدل حول أصل وموقع الطاعون الأسود ، الذي يُعتبر أخطر وباء عرفته البشرية. بخلاف ذلك ، توفرهذه الدراسة للعلماء والباحثين نموذجًا يمكن أن يستفيد منه لمواجهة أي وباء أو جائحة جديدة.
تقدم الدراسة أيضًا نموذجًا يجسد الحاجة إلى التعاون المثمر بين الباحثين من مختلف المجالات والتخصصات ، وهذا المزيج من المهارات والخبرات يعتمد على التحليل الجيني للحمض النووي وعلى البحث التاريخي في علم الوراثة.
.jpg)